البحث عن المعنى في أشياء غير مكتملة لمحمد بدازي
بقلم: عبد الفتاح مجاهد
تمثِّلُ العبثية في الأدب مَذهبًا يقوم أساسا على التركيز على التجارب الإنسانية في الوقت الذي لا يستطيع فيها الإنسان إيجاد
هدفًا أصيلًا في حياته، كما تتجسّد في أفعال أو أحداث لا معنى لها، وتلجأ العبثية
إلى استخدام أسلوب الكوميديا السوادء والسخرية والاستهزاء بالمنطق والتناقض
والجدل، كما أن غايتها دراسة سلوك الإنسان تحت الظروف التي تظهر كأنها دون هدف
ومجرد عبثية فلسفية سواءً كانت الظروف واقعية أم خيالية، ولعل كاتبنا اليوم محمد
بدازي في روايته أشياء غير مكتملة يتتبع خطى كتابات على شاكلة هذا الأسلوب، من
قبيل "المسخ" لكافكا، "الغريب" لألبير كامو و"ست شخصيات
تبحث عن مؤلف" للكاتب لويجي بيرانديلو.
أشياء غير مكتملة عنوان ذا منحى سلبي، ذو دلالة تحيل بأننا في صدد
رواية أحداثها لن تكتمل، إلا أن منذ البداية نصادف سؤال جوهري عن ثنائية الحياة
والموت، هذه الثنائية تعتبر حجر الرحى التي تدور حولها أحداث الرواية… كما أننا
نعيش مع بطل الرواية تلك الرغبة في الكاتبة، لا ليخلد إسمه بعد موته على حد تعبيره
بل بدافع معرفة الذات والتعبير عن الآلام أو التذكر... ما يلفت الانتباه في
الرواية استحضار الكاتب لعدد من الأسماء والكتاب من قبيل ماريو فارغاس يوسا، موريس
بلانشو، محمد برادة، محمد شكري…
لكن قبل الخوض في غمار الرواية، استوقفني في البداية الإهداء الذي
استهل بها الكاتب روايته، فقدم هذا العمل الروائي لأمه أولا وهو أمر طبيعي، ثم
لنفسه الأمر الذي نصادفه نادرا، أين يهدي كاتبا عمله لنفسه، ومن يقرأ تجربة ROBIO الذي
بلغ عقده الثالث في الرواية سيعي لماذا قدم الكاتب هذا العمل لنفسه.
في أولى فصول العمل الروائي المعنون باسم "هبة" يتكلم الراوي بغموض
كبير عن شخصياته الثاوية تحت ظل البطل "ROBIO"، من ملاك صوفيا
وهبة..، لكن كلما تقدمت بنا الرواية تتضح الصورة شيئا فشيئا، تأتي لـ ROBIO فكرة الكتابة، كتابة رحلته في الحياة، رغبة منه في تأمل مسيرته،
ليبحث عن معنى الوجود من خلال معارفه الذين صادفهم... لكنه مخاض الكتابة في
البداية ليس بالسهل، ليقدم لنا الراوي بعدها علاقاته الأيروتيكية،
والمتعلق بالخصوص بخليلته هبة بالإضافة إلى بعض العلاقات العابرة في حياته، الأمر
الذي سيؤدي بهبة التي تعلقت به إلى محاولة الانتحار نتيجة اكتشافها لخيانة ROBIO أو بعبارة أدق نتيجة
تعرفه على فتاة جديدة "بسمة"، سيدخل إثر ذلك للسجن لتكون الفرصة مواتية
لتذكر الطفولة والكتابة عنها.
لا مبالاة روبيو أثناء التحقيق معه في حادث انتحار هبة، بعد اتهام الشرطة له بتهمتي الفساد ومحاولة القتل، تذكرني بلامبالاة الغريب في رواية ألبير كامو حينما اقتادتها الشرطة للتحقيق بتهمة القتل، كما أن الراوي استحضر هذه الرواية وقام بالاستشهاد بها. تقع الأحداث في السرد الروائي لرواية "أشياء غير مكتملة" بشكل متدرج وغير متسلسل زمنيا، ومرتبة ترتيبًا منطقيًّا، في ثلاث مراحل أساسية: الأحداث المبدئية، ثم الأحداث الطارئة، والأحداث الختامية.
في الفصل الثاني، من أشياء غير مكتملة، سيرغب ROBIO في استئناف الكتابة،
واستغلال فترة حبسه التي لا يعلم مدتها، هنا سيستحضر الراوي فترة صباه وترعرعه في القرية، بين أبوين منفصلين. وتذكر
مقالبه الشيطانية، وعيشه لحياة التوحش والضيع والعربدة، رغم أن ذاكرته لا تسعفه
لتذكر التفاصيل إلا أنه استطاع استحضار بعض الأحداث بنوع من السخرية سخرية القدر،
مغادرا بذلك حاضره في السجن مسافرا في غياهب الماضي.
فترة السجن رغم قصرها بقصر
مدة الغيبوبة التي دخلت فيها هبة بالمستشفى بعد استنشاقها للغاز، كانت فرصة للـ Robio
أن يقرأ أن يكتب أن يلملم ما بقي في ذاكرته من مشاهد الطفولة ...
واقترنت الكتابة عند Robio
بمشاعر الألم والحزن والقلق والتيه والضياع...
بعد فترة النشأة بالقرية ينتقل بنا بعد وفاة والده إلى مدينة الدار
البيضاء، واستقراره مع والدته بأحد البراريك القصديرية، المدينة التي لم يجدها كما
تخيلها بمخيلته الصغيرة، مدينة تجمع المتناقضات، حتى أنه تساءل هل هذه هي الدار
البيضاء؟، بهذه المدينة سيعرف عدد من التحولات الفكرية منها والجنسية، بحيث أنه في
السن 15 اطلع على روايات نجيب محفوظ، أكثر ما شده فيها تلك المقاطع الجنسية التي
رسمها نجيب محفوظ، فأثارت غرائزه وجعلت منه مدمنا على الاستمناء، وكان يمارس
الاستمناء الجماعي برفقة أصدقائه في البيوت المهجورة أو بعد مشاهدته لفيلم إباحي مع
ابن الفقيه، مكتفين بالمتعة المصطنعة، لكن هذه المتعة لم تكن كافية، فجمعوا
الدريهمات وقصدوا بيوت الدعارة للممارسة الجنس في الواقع.
في خضم كل هذه الذكريات الطفولية ما بين
القرية والدار البيضاء، تستيقظ هبة من غيبوبتها، واستعادت عافيتها واعترفت بما
اقترفته في منزل Robio، فسقطت عنه تهمة محاولة القتل،
وبقيت تهمة الفساد التي طمأنه المحامي بأنها مسألة محلولة. ففكر أنه بعد خروجه
سيقدم على زيارة قريته.
وجد ال ROBIO نفسه
مقبل على الحياة في الفصل الثالث (صوفيا) وهو يتأمل فترته السجنية، بعد أن احتفال
بخروجه رفقة هبة وزميله في العمل عصام، شده الحنين لزيارة قريته، لكن بعد ليلة
قضاها رفقة هبة، كانت رغبته في معرفة دافعها للانتحار، استلهمت هبة الجواب من
فلسفة ROBIO
حول الحياة أنها محض عبث وشقاء وفوضى، وأن الذهاب للموت وعدم انتظاره تعبير عن
الحرية...
بعد زيارته للقرية برفقة هبة -الزيارة التي أججت ذكريات طفولية
وحنين داخلي- لم يلتقي بهبة بعدها طيلة أسبوعين، لكنها ظلت تكتب عن خيانة الرجال
عبر صفحتها بالفيس، وهي التي لم تتعود على نشر حياتها الشخصية في وسائل التواصل
الاجتماعي. في هذه الفترة كتب حول مرحلة الدراسة الجامعية بعد أن كانت تتنازعه
الرغبة بين العربية والفلسفة، وأدى اهتمامه بمادة الفلسفة وبالمنطق على وجه الخصوص
رغم تخصصه الجامعي في اللغة العربية، كان فرصة ليتعرف على محاسن "مقابح"
ليشرح لها دروس المنطق.
مع مقابح توقف المنطق والعقل، وانتصرت الغريزة الفرويدية واللذة الأبيقورية، في صراع بين ما هو طبيعي غريزي وما هو مكتسب من أخلاق ودين... كان لدروس المنطق الأيروتيكي عواقب وخيمة على Robio، بعد شهر عن علاقتهما تخبره بطريقة غير مباشرة بأنه ظهرت عليها أعراض الحمل، ظل طول الليل يفكر في هذه المعضلة من النواحي القانونية والاجتماعية والدينية، هنا منعطف الحبكة الروائية في "أشياء غير مكتملة"، بعد ولادة ابنته التي اختار لها اسم صوفيا توفيت (حقيقة لا ندري هل ولدت صوفيا ميتة أم ماتت بعد وفاتها)، تركت وفاة الطفلة أثرا بليغا في نفس Robio، طلبت محاسن بعدها مباشرة الطلاق متنازلة عن كل حقوقها...
يحتوي السرد بالرواية على كثير من الروابط المحددة، والتي تعمل على ربط الأحداث المتغيرة والمتحولة بعضها ببعض وفقَ الطريقة رآها الكاتب محمد بدازي مناسبة. بعد خرجه من الجامعة اشتغل Robio مياوم، ثم صحفي بالملحق الثقافي، فبدأ التفكير في الهروب من الحي القصديري فاستأجر شقة بحي المعاريف وهو أحد الأحياء الراقية بالمدينة، رغم عوزه ارتاد أيضا مقاهي فاخرة، وفي إحدى الملتقيات الأدبية إلتقى Robio بسحر امرأة يبدوا أنها تجاوزت الأربعين، هذه المرأة التي بدأ النقاش معها في الأدب والأدباء، وانتهى به النقاش في حمام شقتها، يا لغرابة الأحدث محاسن بدأ اللقاء معها بالمنطق والفكر وانتهى بهما الأمر أيضا في الفراش.
في الفصل الرابع والأخير (ملاك) لم يقدر Robio التركيز في الكتابة، بعد
أحداث جنسية غريبة جمعت الثلاثي Robio وسحر وصديقتها التونسية ريم، في هذا الفصل تظهر
شخصية ملاك إحدى القصص المأساوية في حياة Robio، تركت ملاك مذكرة
سوداء، توجس خيفة من قراءتها، بدأ أيضا لقاءهما أدبيا وفلسفيا، وانتهى في بيت
بضواحي مدينة طنجة، يقرأ ما خط في المذكرة، ومعها يتذكر الأحداث من جهته، قرأ
معاناتها مع جدتها التي تكرهها، ومع والدها الذي خلق فيها عقدة تجاه الرجال بسبب
فض بكرتها، لكن عقدتها تكسرت بعد لقاءها بـ Robio.
كما هي علاقات Robio مع الجنس، الآخر علاقات عابرة ليست بتلك الجدية، إلا أن عدم
اكتراثه هذه المرة أدى لنهاية مأساوية، كما أن فلسفته في الحياة جعلت هبة تحاول
الانتحار، إلا أن بعض الجمل رأتها ملاك في رواية يقرأها Robio إلتقطتها كإشارة
للرحيل عن الدنيا، فشعر Robio
معها بالذنب أنه هو من منحها تلك الاشارة.
فكر Robio
في توظيف المذكرات في روايته، لكن تساءل كيف يفعل ذلك لنص ليس ملكه؟ مأساة ملاك
ذكرتها بما كاد أن يقع لهبة، واستحضر علاقته العبثية بهبة، لكنه في النهاية وظف المذكرات،
وترك مسودة الرواية "أشياء غير مكتملة" لصديقه عصام فهو يعلم ماذا سيفعل
بها. بدأ محمد بدازي الرواية بالتيه والحيرة، فأنهاها بالدمار، العدم، اللاجدوى،
رغم أني أجد عنوان على شفير الهاوية الذي خطته ملاك أكثر تعبيرا عن الرواية من
أشياء غير مكتملة، لكن كلا العنوانين يشكلان مختصرا مفيدا بالرواية.
يظهر بشكل جلي أن الكاتب متأثرا بشكل كبير بالكتابة الواقعية الآيروسية
لمحمد شكري وزفزاف وبوكوفسكي، رغم أنه وجه القارئ في متن السرد إلى ذلك، ومحاولته
الاجابة عن هذا التقارب، عنوان مقال الذي خطه الروبيو للجريدة "محمد شكري من
طفل يقتات على النفايات إلى كاتب عالمي" هو عنوان فعلا متواجد بأحد المواقع
الأدبية خطته أنامل الكاتب محمد بدازي.
طغى على الرواية كثيرا المنولوغ، والصوت الداخلي، وغياب الحوارات الطويلة،
وهذا يعزى لرسم الكاتب القصة من خلال استرجاع الذاكرة والغوص في الماضي ليشكلها ولإيصال
الصورة الكاملة إلى ذهن القارئ، من جهة من جهة ثانية، محاولة بطل الرواية كتابة
رواية على شكل سيرة ذاتية، حيثُ تمثِّل الأعمدة التي تتولى رفع سقف الرواية حتى
تصل مكتملة التكوين الذهني للقارئ..
يغب عن الرواية الوصف إلا فيما نذر، وصف الأشخاص والوجوه، وصف
الأماكن والفضاءات، حتى يخاطب الكاتب في تقنية الوصف حواس القارئ المختلفة من ذوق
وشم وسمع ولمس، فإذا أحس القارئ أنَّه استشعر الشّيء الموصوف بشكل كامل يكون
الكاتب قد نجح في توصيفه ذاك.
كما اعتمد الكاتب تقنية الحذف واختصار زمن طويل من أحداث الرواية،
فيقوم بتجاوز الشهور والسنوات، وضمنها اختصار لأحداث كثيرة في القصة للوصول إلى
الحدث المُراد الحديث عنه وتصويره في ذهن القارئ، ويدخل في السرد المتقطع. الأمر الذي نتج عنه التلخيص
المكثف للأحداث في كلمات معدودة، أدى به إلى تسريع وثيرة أحداث السرد وحركتها،
للابتعاد عن السأم والملل الذي قد يصيب القارئ.
0 التعليقات :
إرسال تعليق