التدبير بالأزمات
Management by Crisis
بقلم الباحث: ياسين شادي
شكلت جائحة كورونا اختبارا حقيقيا للعديد من الكيانات، السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، الدولية منها والقطرية بل حتى الترابية، وذلك على عدد من
المستويات كان أهمها تدبير انتشار الأزمة والخروج من هذه المرحلة بأقل الأضرار
الممكنة. فقد أرخت هذه الجائحة بظلالها على العديد من الجوانب التي تضررت بشكل
كبير وهددت البشرية في أهم حقوقها المتمثلة في الحق في الحياة، ناهيك عن أنها
أظهرت بالفعل النقص الكبير الذي تشهده المنظومات الصحية في كثير من الدول، خاصة
تلك التي فشلت في تدبير هذه المرحلة وتكبدت بذلك خسائر جد مهولة على كافة
المستويات. لقد كشفت جائحة كوفيد 19 عن واقع تدبير الأزمات في العديد من الدول
والمنظمات. لقد أظهرت هذه الجائحة بشكل جلي مسألة الفردية المتأصلة في إدارة
الأزمة حتى لدى الكيانات المتحدة فيما بينها، حيث أبان واقع الأزمة عن ممارسات
بعيدة كل البعد عن مفهوم التضامن المفترض حضوره كأساس للعلاقة بين الدول المشكلة
لهذه الاتحادات. في حين برزت العديد من التقارير والتصريحات التي تحذر من خطر
محتمل الوقوع سيكون أشد وطأة من الأزمة الاقتصادية لسنة 2008، لدرجة جعلت المديرة
العامة لصندوق النقد الدولي تقول أن العالم يشهد أكبر أزمة اقتصادية منذ الكساد
الكبير الذي وقع في ثلاثينيات القرن الماضي، الأمر الذي سيكون له أثر كبير على
كافة المجالات الأخرى. ولعل هذا، حسب العديد من الباحثين، مرده للإختلالات الكبيرة
في نظم الحكامة الصحية والاقتصادية من جهة، وغياب ثقافة تدبير الأزمات لدى
الفاعلين السياسيين في كثير من دول العالم. حيث لم تنجُ دول متقدمة وغنية بمواردها
المالية ومتطورة علمياً وطبياً من هذا الوباء سريع الانتشار، بسبب عدم استعداد
نظمها للتعامل مع مثل هذه الأزمات، في الوقت الذي أظهرت دول أخرى أقل تقدما وأكثر
فقرا كفاءة عالية في إدارة الأزمة والخروج ببلدانها من الخطر بفعل تطبيق عدد من
التدابير والإجراءات المندرجة تحت مسمى علم تدبير الأزمات، الشيء الذي أعاد طرح
التساؤل حول ماهية هذه التيمة ومحاولة فهمها واستيعابها ومناقشة هذا الأسلوب في
التدبير وإدارة مثل هذه الأوضاع. ذلك أن الحاجة لهذا النهج قد زادت أكثر في الآونة
الأخيرة لما يوفره من إمكانات في التدبير قائمة على أساس استغلال الفرص التي
تتيحها مرحلة الأزمة والالتفاف على المخاطر التي تفرضها هذه الأخيرة، وذلك من خلال
ما يصطلح عليه بالتدبير بالأزمات. وهي مقاربة في التدبير تتحدد بشكل عام في ذلك
الأسلوب الذي يستوجب التعامل مع الأزمات من خلال صرف الأنظار عن الأزمة الفعلية
عبر افتعال أزمات ثانوية ومن ثم تخصيص جهة محددة لتطوير هذه الأزمة وتوجيهها نحو
مسارات مقصودة، من خلال زج الأطراف المعنية بها، والعناية بكيفية إخراجها
والاستثمار في أحداثها وتوظيف آثارها.
في هذا السياق، تأتي هذه الورقة لتطرح إشكالية مركزية تروم فهم وتحليل موضوع التدبير بالأزمات، وتسائله في
ماهيته، أسسه النظرية ومراحل توظيفه العملية، باعتباره أسلوبا لإدارة الأزمات برز
مؤخرا كنهج يفرض نفسه على العديد من الدول والمنظمات وغيرها من الكيانات، وتشتد
الحاجة إليه أكثر في ظل ما يعيشه العالم من انتشار واسع لجائحة كوفيد 19، وما
سينتج عنها من تداعيات تستوجب اعتماد مقاربات أكثر عقلانية خاصة في تدبير مرحلة ما
بعد كورونا.
في هذا الصدد سنحاول معالجة هذه الإشكالية من خلال تقسيم الموضوع لمحورين
أساسيين، نتطرق في الأول لمفهوم التدبير بالأزمات محاولين في ذلك الوقوف عند ماهية
هذا المفهوم ومميزين له عن غيره من المفاهيم المشابهة له، ونخصص المحور الثاني
للحديث عن مراحل وأساليب صناعة الأزمة باعتبارها نهجا في التدبير يقتضي إتباع
مراحل محددة وعددا من القواعد المؤطرة له.
المحور الأول: مفهوم التدبير بالأزمات
مع تزايد المخاطر التي
صار يمثلها فيروس كوفيد 19 وما أحدثه من تداعيات على مستوى العديد من الدول، والذي
لازالت المختبرات العلمية تسابق الزمن من أجل إيجاد لقاح لهذا الوباء، أصبح من
اللازم التفكير في كيفية تدبير مرحلة ما بعد كورونا، هذه المرحلة التي ستشكل
اختبارا حقيقيا لقدرة البشرية على إبداع أساليب ومناهج في التدبير أكثر فعالية
وتتسم بالعقلانية والاستثنائية. وعلى اعتبار الضرورة الملحة التي تستدعيها الظروف
الصعبة التي أدت إليها جائحة كورونا، صار من اللازم العودة إلى النظريات والمفاهيم
التي يتيحها علم تدبير الأزمات وحكامة المخاطر، باعتباره أحد التخصصات المهمة
والراهنية التي تمكننا من عدد من الآليات والوسائل في إطار مواجهتنا للانعكاسات
التي كرستها هذه الجائحة. ولعل أحد أهم الأساليب التي يمكن الاعتماد عليها في هذا
السياق ونحن نتحدث عن هذه الجائحة ومرحلة ما بعد كورونا هو أسلوب التدبير
بالأزمات. هذا النهج الذي يتحدد مفهومه في افتعال الأزمة بغية صرف الأنظار عن
المشاكل الحقيقية التي يشهدها الكيان السياسي أو الاقتصادي أو غيره، هو أسلوب لا
محيد عنه في مواجهة مثل هذه الأوضاع التي خلفتها جائحة كورونا. ذلك أن الأزمات
-عموما- هي فعل أو رد فعل إنساني، فعل يهدف إلى توقف، أو انقطاع نشاط من الأنشطة،
أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع، بهدف إحداث تغيير في هذا النشاط، أو الوضع لصالح
مدبره، وهو ما يعرف "بالإدارة بالأزمات". ومن قبيل ذلك محاولة فئة من
المواطنين الاحتجاج بطرق قد تؤدي إلى شل حركة الاقتصاد أو إحراج النظام السياسي
قصد المطالبة بحقوق أو حريات أكثر، أو سعي العمال في شركة ما إلى الإضراب عن
العمل، من أجل الزيادة في الأجور، أو المشاركة بنسبة في الأرباح، أو تكوين نقابة
خاصة بهم، أو خفض ساعات العمل أو الحصول على غير ذلك من مزايا عينية وتسهيلات، أو
محاولة رب العمل من جانبه طرد بعض المحرضين على الإضراب، بهدف تحقيق الانضباط. فهم
يخلقون وضعا يشكل أزمة بالنسبة للفاعل الآخر تحثه على الاستجابة للمطالب المرفوعة
أو تؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة، وقد تفلح محاولة أي من هذين الفريقين (العمال
أو أرباب الأعمال)، وهنا يقال إن تسبب أيهما في خلق الأزمة قد أفلح في تحقيق
مراده، ونجحت محاولته للإدارة بالأزمات" management by Crisis".
وقد تفشل مثل هذه المحاولة، فيجد مدبر الأزمة نفسه وقد أصبح في مأزق حقيقي. وتمثل
محاولاته للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر الممكنة إدارة للأزمة Crisis Management، فإذا
فشل الإضراب مثلاً في تحقيق أهدافه، ونجحت جهود المحرضين عليه في إقناع صاحب العمل
بمجازاتهم بخصم بضعة أيام من أجورهم بدلاً من فصلهم، فإن ذلك في حد ذاته يمثل
إنجازاً لهم في تحجيم خسائرهم، أو نجاحاً في إدارتهم للأزمة.[1] غير
أن هذا التقاطع الحاصل بين نهج التدبير بالأزمات وتدبير الأزمات يفترض الوصول إلى
نتيجة مفادها أن المكاسب التي يحققها أحدهما تعادل ما يتكبده الآخر من خسائر، وهذا
إن كان متصورا حصوله نظريا في إطار ما يصطلح عليه بالمعادلة الصفرية، فهو على
المستوى الواقعي ليس دائم الوقوع، إذ الحياة العملية لا تسفر دائما عن ربح كلي أو
خسارة تامة، بل قد يحقق الطرفين مكاسب وخسائر بنفس القدر وبشكل مشترك، وهو الأمر
الواقع فعلا زمن كورونا، إذ أرخت بظلالها على كافة المجالات وجعلت من معطى الخسارة
أمرا مشتركا بين الجميع. مما يضعنا أمام ضرورة التحديد المفاهيمي بين مسمى التدبير
بالأزمات ومفهوم تدبير الأزمات.
يرتكز مفهوم التدبير بالأزمات على افتعال
الأزمة، وهو فعل يهدف إلى توقف نشاط من الأنشطة أو انقطاعه، أو زعزعة استقرار وضع
من الأوضاع، بحيث يؤدي إلى إحداث تغير في هذا النشاط أو الوضع لصالح مدبّره. وهذا
ما يتم اللجوء إليه من قبل عدة دول لتبرير بعض الأحداث، حيث تفتعل دولة أحيانًا
مشكلة ما على الحدود مع إحدى جاراتها لإحداث أزمة تهدف من ورائها إلى ترسيم الحدود
أو الحصول على مكاسب معينة على المستوى السياسي. أو حين تسفر الأوضاع التي كرستها
جائحة كورونا عن ركود كيان اقتصادي ما يكون معها في حاجة ماسة إلى التخلي عن نسبة
مهمة من المستخدمين والعمال لكن المقتضيات القانونية تحجمه عن اتخاذ مثل هذه
القرارات فيلجأ إلى افتعال أزمة يوجهها بالشكل الذي يحقق مراده. أو حين يتم
استغلال أزمة معينة للتغطية عن الأزمات الأخرى، يمكن أن نستحضر هنا الاحتجاجات
الواسعة التي شهدتها مؤخرا الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية مقتل جورج فلويد
على يد الشرطة. حيث تم استغلال هذا الحدث لصرف نظر المواطنين عن فشل إدارة البيت
الأبيض في التعامل بواقعية ونجاعة مع تفشي جائحة كوفيد-19. وقد أشار بعض الباحثين
إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كان بإمكانها أن تحتوي هذه الأزمة بإجراءات
بسيطة تتمثل أساسا في إحالة الأمر على القضاء، لكن الوضع بقي على إطلاقه، ولم يتم
تعيين النائب العام في مينيسوتا ليتدخل حيال هذه الأزمة إلا في فاتح يونيو، أي بعد
8 أيام من الحدث، عرفت اضطرابات وعمليات نهب واحتجاج عنيف، وصرفت فيها أنظار
العالم إلى نقاش العنصرية ومخلفات هذا الحدث في نسيان تام لجائحة كورونا.
وهنا
يبرز المفهوم الثاني والمتمثل في تدبير الأزمات، إذ أن الوضع المتأزم الذي يجد
الطرف الثاني نفسه فيه يحتم عليه إدارة الأزمة بالتقليل من المخاطر والاستغلال
الجيد للفرص والإمكانات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك فرقا شاسعا بين أسلوب
تدبير الأزمة وأسلوب التدبير بالأزمة، فالأسلوب الأول يعرف على أنه: حالة مؤقتة من
الاضطراب وعدم التوازن، تتسم في الغالب بعدم قدرة الفرد أو الكيان للتغلب على موقف
خاص باستخدام الطرق المعتادة لحل المشكلة، واحتمال نتيجة إيجابية أو سلبية. كما أن
الشخص الذي يعاني من أزمة يمر بخبرة متوقفة على المصادفة أو منطوية على المخاطرة
أو حادثة تهدد مصالحه أو حياته، ويكون في تلك الحالة سريع التأثر بتلك الحادثة،
ويفشل في التغلب على الضغوط التي يتعرض لها أو التقليل منها من خلال الطرق
المعتادة، وبالتالي يدخل في حالة من عدم التوازن[2]. ويقتضي ذلك تشكيل لجنة متخصصة لإدارة أزمة
جديدة طارئة اندلعت نتيجة ظروف معينة من أجل وضع حد لتفاقمها وكيفية معالجتها
وتخفيف الآثار الناجمة عن حدوثها. وهو الأمر الذي حدث فعلا من قبل عدد من الدول في
ظل انتشار جائحة كوفيد 19، حيث تم إحداث لجان أطلق عليها لجان اليقظة، كما هو
الحال في المغرب أو خلايا تدبير الأزمة في بعض التجارب المقارنة، والتي تحدد دورها
في إدارة الوضع ومحاولة التعامل معه بشكل عقلاني يهدف التخفيف من مخاطر الوباء
لاسيما في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. فأقرت هذه اللجان عددا من التدابير
والإجراءات الوقائية والاحترازية كان لها أثر إيجابي إلى حد كبير، فالإجراءات التي
سنتها لجنة اليقظة في المغرب مثلا اتسمت بقدر عال من الفعالية ودل ذلك على أنها
تعمل وفق منطق استراتيجي يتأسس على الاستشراف والإستباقية. وأما النهج الثاني
فيقوم على افتعال الأزمة ومن ثم تخصيص جهة محددة لتطوير هذه الأزمة وتوجيهها نحو
مسارات مقصودة، من خلال زج الأطراف المعنية بها، والعناية بكيفية إخراجها
والاستثمار في أحداثها وتوظيف آثارها[3]. ويبقى التوجه الذي أرسته وزارة العدل
المغربية أبرز مثال على هذا، حيث أدت مقتضيات مرسوم-بقانون حالة الطوارئ الصحية
إلى تعطيل العمل بكل الآجال القانونية في الإدارات المغربية، الأمر الذي هدد بوقوع
أزمة حقوقية تهم المعتقلين احتياطيا والذين من المفترض عرضهم على المحاكم للنظر في
ملفاتهم بشكل عاجل، إلا أن انتشار الأزمة وإقرار حالة الطوارئ الصحية وتفاديا لأي
تداعيات قد تنشأ عن هذا الوضع الحقوقي، كل هذا جعل وزارة العدل تقر العمل
بالمحاكمة الالكترونية، فصرنا نشاهد محاكمات عن بعد طيلة فترة الحجر الصحي. وهذا
ما جنب المغرب انعكاسات سلبية كان من المرتقب حدوثها سواء على المستوى الصحي أو
الحقوقي.
إن التدبير بالأزمات يعطي للفاعل السياسي أو
الإداري في الدولة القدرة على التعامل مع تداعيات الأزمة الحقيقية دون ما تشويش أو
وقوع أحداث قد تسفر في بعض الأحيان عن آثار سلبية في مستويات متعددة. ولعل بعض
الأحداث التي شهدتها بعض الدول والكيانات السياسية تؤكد الحضور القوي لهذا الأسلوب
على مستوى الأجندة السياسية لدى بعض الفاعلين. ويكفي أن نشير إلى التوتر الذي
شهدته مؤخرا العلاقات الصينية-الهندية على إثر تداول خبر مشاجرة بالأيدي بين جنود
من الطرفين على الحدود المشتركة بينهما أدى إلى مقتل عدد منهم. وهذه الرواية وإن
كانت هي الرسمية، إلا أن عددا من الأكادميين أشاروا إلى استحالة حدوثها وأن الأمر
لا يعدوا أن يكون عملية افتعال لأزمة، يراد منها صرف أنظار العالم عن الجائحة
وأسباب انتشارها، على اعتبار أن البعض بدأ يلوح بأصابع الاتهام إلى الصين، كونها
هي سبب انتشار هذا الفيروس وهي المسؤولة عن التكتم في بداية انتشاره إلى أن عسر
على العالم تقويضه. يمكن أن نشير أيضا في هذا الصدد إلى ما عرفته الجمهورية
التركية في السنوات الماضية من محاولة انقلاب على السلطة أدت إلى عملية اعتقالات
واسعة في صفوف الجيش والموظفين وغيرهم،
وهو الشيء الذي جعل بعض المختصين في علم السياسة يقولون بأن الأمر محض افتعال في
إطار التدبير بالأزمات يراد به التمهيد للتعديلات الدستورية التي ستنقل الجمهورية
التركية من النمط البرلماني إلى النظام الرئاسي، الذي سيعطي لرئيس الجمهورية
اختصاصات واسعة، مما يشكل توجهاً نحو الحكم المركزي الأكثر صرامة، حيث يتمحور حول
شخصية الرئيس ويقلل دور البرلمان ويضعف من دور الأحزاب أيضاً، ويقلل من مساحة
التشاركية في إدارة الدولة. واللافت للنظر أن أزمة كورونا قد كرست تدبيرا مركزيا
محضا، بعيدا عن الوحدات الترابية أو الفاعلين خارج إطار المركز، مما يزيد من طرح
أكبر لفرضية اللجوء إلى تيمة التدبير بالأزمات في محاولة للإبقاء على الوضع الذي
أنتجته فترة كورونا والالتفاف على المكاسب الحقوقية التي أقرتها دساتير ما بعد
"الحراك العربي". ولعل التجربة المغربية تؤكد هذا الطرح، حيث لاحظ
الجميع الدور البارز لوزارة الداخلية المغربية في تدبير فترة الطوارئ الصحية،
وغياب الفاعل الحزبي المنتخب خاصة على المستوى الترابي. بل إن الحكومة المغربية
أصدرت مرسوما تمنح فيه للولاة والعمال صلاحيات واسعة جدا للتعامل مع المرحلة[4]، الأمر الذي يصعب الرجوع عنه بعد مضي خطر
جائحة كورونا. إذ سيعمل الفاعل المركزي على تكريس هذا الوضع ليصير قاعدة تخالف
الدستور وهو أمر لا يتحقق سوى من خلال وجود أسباب تستدعي استمرار العمل به ويبرر
اللجوء له، وهذا ما يجعلنا نقول بأن مرحلة ما بعد كورونا ستشهد إعمالا مكثفا لنهج
التدبير بالأزمات.
يشكل
مفهوم التدبير بالأزمات أسلوبا للتمويه، على المشاكل القائمة أو التي أحدثها وضع
مأزوم سابق، يراد التخلص منه أو صرف النظر عنه، ذلك أن نسيان مشكلة ما، يتم فقط
عندما تحدث مشكلة أكبر وأشد تأثيرا بحيث تطغى على المشكلة القائمة، إلى حين معالجة
المشكلة الفعلية أو التخلص منها[5].
ومن
هنا يطلق البعض على التدبير بالأزمات علم صناعة الأزمة، والذي يتم حصر الغرض منه
في التحكم والسيطرة على الآخرين، وتوجيه الفعل الجماهيري بما يخدم تجاوز الأزمة
الحقيقية. في هذا الصدد يبرز المثل المصري باعتباره أحد أهم التجليات لهذا النهج
في التدبير، ذلك أن جائحة كورونا لم يتم التعامل معها بالشكل المناسب لدرجة بلغ
فيها عدد الوفيات المصرح بها رسميا ما يقارب 4400 شخص[6]، في الوقت الذي لازالت
نسب الوفيات في المغرب مثلا متدنية جدا، الأمر الذي جعل النظام المصري يركز أنظار
عامة الشعب على مشاكل أخرى يصدرها على أنها أكثر أهمية كالأزمة الليبية مثلا. حيث
تم توجيه الإعلام المصري للترويج لمقاطع مرئية على أنها ضربات عسكرية جوية لأحد
الأهداف التركية المتواجدة بقاعدة الوطية الليبية، ليظهر بعد أيام معدودة على أن
المقطع مفبرك وكان الغرض منه صرف أنظار المواطنين إلى متابعة الأزمة الليبية وعدم
الاهتمام بما تفرضه جائحة كورونا من تداعيات.
لابد
من الإشارة هنا إلى أن الأزمة المصنوعة لها خصائص مميزة لها تجعلها أكثر واقعية،
تبدو عبرها على أنها حقيقة غير مشكوك فيها، وهذه الخصائص هي التي تسهم في تحقق
المراد من الأزمة، وأهم خصائصها هي الإعداد المبكر، وتهيئة الظروف الزمانية
والمكانية، وتوزيع الأدوار على قوى صنع الأزمة، واختيار التوقيت المناسب لتفجيرها،
وإيجاد المبرر والذريعة لإطلاقها.
إن
افتعال الأزمة يقتضي أن تتسم هذه الأخيرة بإيقاع سريع متدفق الأحداث، ومتلاحق
التتابع، ومتراكم الإفرازات والنتائج، وكل منها تصب في سبيل تحقيق الهدف المراد
الوصول إليه، فلكل أزمة مصنوعة هدف يتعين أن تصل إليه، وبدون تحقيق هذا الهدف لن
يتلاشى الضغط الأزماتي، أو يخف التأثير العنيف لإفرازاته، وكذا لن تهدأ قوى صنع
الأزمة أو تتراجع حتى تحقيق هذا الهدف.
ولهذا
يستلزم على مدبر الأزمة أن يستحضر السرعة في التدبير والاستشراف وخاصية الاستباق،
ذلك أن التدبير بالأزمات يرتبط أساسا بتوجيه الفعل السياسي، السلوكي والاقتصادي
إلى تكريس الأزمة الوهمية التي تم إحداثها أو استغلالها. وهذا الأمر وإن كان
متحكما فيه غير أنه غير مضمون النتائج، ولذلك يتم إعداد سيناريوهات متعددة لما
يحتمل أن تؤول إليه الأوضاع جراء الأزمة المفتعلة. يمكن أن نستحضر هنا الكتاب الذي
تم إصداره في ظل انتشار وباء كورونا من قبل جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق
للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي كشف بشكل واضح عن كم الاستعمال الهائل لأسلوب
التدبير بالأزمات. حيث أشار الكتاب إلى أن ترامب تعامل مع أزمة مقتل خاشقجي فقط
لصرف الأنظار عن استعمال إيفانكا للبريد الالكتروني في مسائل شخصية، وهو نفس السبب
الذي جعله يطيح بهيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية السابقة.
بهذا تظهر أهمية هذا
الأسلوب في التدبير، والذي يمكن الفاعل من إدارة الأوضاع بعقلانية وفعالية كبرى.
وفي هذا السياق تطرح لدى الفاعل المدبر بالأزمة عدة أسئلة تؤطر عمله التدبيري على
هذا المستوى، وهي تتجلى أساسا في:
كيف
ظهرت الأزمة وتطورت أحداثها؟
من
هم الأطراف الصانعة للأزمة سواء العلن أو الذين يعملون في الخفاء؟
لماذا
تم صنع الأزمة في الوقت الراهن؟
ما
الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه قوى صنع الأزمة؟
ما
المدى الذي لا يتعين أن تتجاوزه قوى الضغط الأزماتية؟
وكيفية
إيقافها أو محاصرة تداعياتها؟
وتستخدم
الدول الكبرى التدبير بالأزمات كمقاربة لتنفيذ إستراتيجيتها الكبرى في الهيمنة
والسيطرة على العالم، ولتأكيد قوتها، وفرض إرادتها وبسط النفوذ، بشكل لا يفقدها
أصدقائها ولتحييد أعدائها أو تدمير
مصالحهم، وفي الوقت ذاته لتقوية تحالفاتها القديمة؛ بل ولتحقيق سياسات على المدى
البعيد، لا تستطيع الإعلان عنها أو حتى مجرد الإشارة إليها.[7] والتدبير بالأزمة هو
عملية تغيير في المشهد السياسي أو الاقتصادي الذي صنعت فيه، تهدف إلى تأكيد وضمان
استمرار المصالح الحيوية القائمة، وتدعيم قوى الاستقرار والتوازن المتواجدة، أو
إيجاد قوى استقرار وتوازن جديدة. ومن ثم فقد تؤدي عملية صناعة الأزمة على المستوى
الدولي مثلا إلى إعادة رسم المشهد الجيو-سياسي، وقد تسهم في إسقاط أنظمة وقيام
أخرى، وتفكيك تحالفات وإقامة أحلاف جديدة، وضم أجزاء لدول أخرى، وإعادة رسم
المعترك السياسي، وترتيب الأوضاع والقوى، وذلك كله من خلال عملية صنع الأزمة واستغلالها.
في هذا السياق نشير إلى الخطوة الدبلوماسية البارزة التي أطلقها الملك محمد السادس
تجاه 15 دولة افريقية، والتي تمثلت في إرسال مساعدات طبية ووقائية لهذه الدول. وهي
خطوة كما عبر عنها البلاغ الصادر عن الخارجية المغربية يمثل نهجا براغماتيا للعمل
نحو إفريقيا، أي بمعنى آخر هو محاولة لاستغلال الفرص والإمكانات الناتجة عن الأزمة
الطارئة بفعل تداعيات انتشار جائحة كورونا. وهو أيضا استغلال واضح للأزمة الصحية
من أجل حصد مكاسب دبلوماسية.
المحور الثاني: مراحل وأساليب صناعة الأزمة
جدول رقم(1) مراحل صناعة الأزمة
-
مدحت محمود، مفهوم الأزمات: منظور إداري واجتماعي،
المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، المجلد14، عدد 38، مصر، ص375.
مرحلة
الإعداد لإخراج الأزمة:
تعتبر هذه المرحلة تمهيدا
لميلاد الأزمة وذلك بالنظر لأنها تقوم على تهيئة المسرح الأزماتي لافتعال الأزمة،
وإيجاد وزرع بؤرتها في الكيان السياسي أو الاقتصادي أو الإداري، وإحاطتها بالمناخ
والبيئة التي تكفل نموها وتصاعدها. وأهم الخطوات التنفيذية التي تتم في هذه
المرحلة ما يلي:
⇦
استخدام الضغوط الاتصالية على الكيان السياسي أو
غيره، وحلفائه لإفقاده توازنه، ودفعه بشكل تدريجي إلى حافة الهاوية، ومن خلال
حسابات الفعل وردود الفعل، القائمة على دراسة متأنية لسيكولوجية متخذ القرار في
الكيان المزمع إحداث الأزمة فيه.
⇦
تشويه حقيقة القائمين على الكيان، وإطلاق الشائعات
المبنية على حقائق جزئية، والمقولات المدعمة للشائعات، وتصويرهم على أنهم فاقدون
للأهلية والرشاد، أو أنهم خطر على الأمن والاستقرار، أو أنهم مجرمون خطرون على
المجتمع الدولي والشعوب.
⇦
كسب المؤيدين لأي تدخل عنيف ضد الكيان، سواء من
خلال الإعلام المكثف المصاغة والمعدة رسائله بشكل جيد، أو من خلال شبكة المصالح
والارتباطات، أو من خلال تسريب المعلومات المغلوطة أو الحقيقية، أو هي جميعا.[8]
مرحلة إنماء وتصعيد الأزمة:
ويطلق
عليها البعض مرحلة التعبئة الفاعلة والمكثفة للضغط الأزماتي، وحشد كل القوى
المعادية للكيان المستهدف نيله بالأزمات العنيفة، حيث يتم اصطياد هذا الكيان ووضعه
في فخ الأزمة ومن خلال مجموعة متكاملة من التكتيكات يظهرها لنا الشكل التالي:[9]2
شكل(2)
تصعيد الأزمة
المصدر: الخضيري، محسن أحمد، 2003م، مرجع سابق، ص (18)
- أسلوب التصعيد الرأسي:
وهو يقوم على الدفع المباشر لقوى صنع الأزمة وزيادة قدرتها وقوتها، وتكثيف تواجدها
في منطقة صنع الأزمة، و بشكل سريع متعاظم لتأكيد التفوق الكاسح لقوى صنع الأزمة.
مع عدم تمكين الطرف الآخر من التقاط الأنفاس، والرضوخ للتهديد الصريح العلني للقوة
الضاغطة لقوى صنع الأزمة، وزيادتها وتنميها ذاتياً مع الوقت.
- أسلوب التصعيد الأفقي:
ويقوم على كسب مزيد من الأصدقاء والحلفاء والمؤيدين لقوى صنع الأزمة، وانضمامهم
لها في عملية زيادة الضغط الأزماتي، وتوسيع نطاق المواجهة لتشمل مجالات جديدة وتسع
مناطق جديدة، وأبعاداً أخرى، تجعل من عملية مواجهة الأزمة عملية معقدة وصعبة
تستنزف الكيان الذي تم صنع الأزمة لديه، وتقوض دعائمه وتهدم أركانه وبنيانه.
- أسلوب التصعيد المتراكم:
وهذا النوع من الأساليب ذات الطبيعة الخاصة التي تستخدم في صناعة الأزمات بشكل
فعال لزيادة الضغط الأزماتي، وإرباك الطرف الأخر إرباكاً شديداً. حيث يتم التصعيد
للأزمة باستخدام كافة الأدوات والوسائل، والتخفيف مرحلياً، والتصعيد بشكل كامل كما
يوضحه لنا الشكل التالي:
شكل (3) طريقة التصعيد المتراكم:
المصدر: الخضيري، محسن أحمد، 2003م، مرجع سابق، ص (19).
حيث
يتم التصعيد بشكل متكامل ومتنام لفترة، يعقبها مرحلة تجميد، وبعد التجميد يتم
التصعيد مرة أخرى، وهكذا.
وتستخدم هذه الطريقة في
الأزمات الدولية ذات الطبيعة الخاصة، التي من خلالها يتم إرهاق وإرباك الكيان
المستهدف نيله بالأزمة، وتقويض هيكله، تفكيك عناصره وإفقاده الثقة بقيادته، وفوق
كل هذا إحداث حالة من اليأس والإحباط وبشكل يدفع أفراد هذا الكيان إلى أعمال قد
توصف بالطائشة والهوجاء. وهو ما يدفع بقوى المعارضة الكامنة تحت السطح، أو
المتواجدة في الخفاء إلى الظهور العلني، والتحرك بشكل سريع ومؤثر لاستثمار الخلل
في هذا الكيان، ومن ثم زيادة هذا الخلل وتوسيع نطاقه وإجبار الخصم على التقهقر
والتسليم بالمطالب التي تطالب بها، والاستجابة لها بشكل كامل.[10]
وأياً
ما كان فإن عملية تصعيد وإنماء الأزمة يجب أن تدرس بعناية، وفي ضوء الحساب الختامي
المتوقع لها، خاصة في إطار احتمالات قيام الخصم بتصعيد مماثل ومتقابل في هذه
العملية.
وفي هذه المرحلة يتم استخدام أدوات مادية ذات تأثير مباشر
على التصعيد الأزمة، من خلال:
قطع
المساعدات وفرض الحصار أو عقوبات اقتصادية على الكيان، سواء كان دولة أو مؤسسة أو
شركة، وإحداث إرباك مالي ونقدي وعيني،
وإشعار كافة المستفيدين من هذه المساعدات بأهمية التخلص من الأفراد الذين يعارضون
سياستنا، أو من القيادة التي استنفذت الغرض منها.
استخدام الوثائق والمستندات الحقيقية، أو المزورة بشكل متقن
لتأكيد صدق الشائعات السابق إطلاقها في المرحلة الأولى للأزمة المفتعلة، وتسريب
بعض منها إلى أجهزة الإعلام الدولية واسعة الانتشار.
افتعال
الأحداث وتنميتها وتصعيدها بشكل كبير لإيجاد المبرر للتدخل بطرق قد تختلف درجة
شدتها ضد الكيان، أو ضد قيادة هذا الكيان.
مرحلة المواجهة الحادة:
وهي تلك المرحلة
التصادمية بين الكيان المنشئ للأزمة، والكيان المطلوب صنع الأزمة فيه أو له.
ويشترط لنجاح هذه المرحلة ما يلي:[11]
اختيار التوقيت غير المناسب للكيان الخصم المراد شغله أو استنزافه بالأزمات. وعلى
أن يمثل في ذات اللحظة الوقت المناسب للفاعل المفتعل للأزمة.
اختيار المكان غير المناسب للخصم، والذي فيه لا يستطيع
السيطرة على الأحداث أو على تداعياتها، ويكون لمفتعل الأزمة فيه القدرة على توجيه
الأحداث والسيطرة عليها.
اختيار المجال غير المناسب للخصم لإحداث الأزمة فيه، سواء
كان هذا المجال اقتصاديا، أو سياسيا، أو اجتماعيا، أو ثقافيا... الخ، والذي نملك
فيه القدرة على تحريك قوى الفعل وإدارة الأزمة.
ويشترط لنجاح التصادم حدوث حادث معين، أي نقطة الصفر التي ستكون بداية الشرارة وانطلاق اللهيب، ويفضل أن يكون هذا الحادث طبيعيا عفويا أو تلقائيا، يتم استغلاله بالشكل المناسب، فإذا لم يتوافر هذا الحادث، كان على الفاعل أن يعمل على توفيره، وبشكل يبدو تلقائي وعفوي.
مرحلة السيطرة على الكيان الخصم:
وهي مرحلة الاستفادة من حالة انعدام التوازن لدى الخصم، وعدم قدرته على التحكم في الأمور، وتعرضه للاختراق. ثم يمكن من خلال العناصر التي تم زرعها لديه، والمحيطة به توجيهه بالشكل المطلوب، ومن ثم إفقاده القدرة على الرؤية الذاتية، وفي الوقت نفسه تخليه عن أهدافه الأصلية التي كان يتجه إليها، واستبدال هذه الأهداف بأهداف جديدة تتناسب مع ما يريده صانع الأزمة، بل وربطه بعلاقات تبعية يصعب عليه الفكاك منها، أو الخروج عنها، ما لم يتحمل تكاليف باهظة لا يقدر على دفع ثمنها.
مرحلة
تهدئة الأوضاع:
وهي المرحلة التي يتم فيها تخفيض الضغط الأزماتي، وإعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية، واستخدام أساليب التعايش الطبيعي، والتخفيف من حدة التوتر القائم على الضغط الأزماتي، والاستجابة الهامشية لبعض مطالب الطرف الثاني، والتي تكون بمثابة امتصاص لقوى الرفض والاستثارة الداخلية لديه. في الوقت نفسه إعطاء الفرصة كاملة للقوى المؤيدة لصانع الأزمة للسيطرة عليه، وإحكام عملية توجيه. مع استخدام الحكمة الكاملة في امتصاص كل غضب جماهيري، والاستعانة بقادة الرأي والفكر المعتدلين والموالين، وفي إطار حملة إعلامية مخططة ومدروسة جيدا، يتم إعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية، بعد أن تم تكييفها بالشكل المناسب لمصالح ورغبات وأهداف مفتعل الأزمة البعيدة المدى.[12]
مرحلة استنزاف الطرف الآخر:
ويطلق عليها البعض مرحلة
جني المكاسب، والتي يتم فيها استنزاف الخصم، وبالتالي حصد نتائج الجهود المثمرة
التي تمت في المراحل السابقة، ويتخذ جني المكاسب عادة جانبين، هما:
⇦
جانب سلبي، يتحدد في إجبار الطرف الآخر على
الامتناع عن القيام بأي عمل من شأنه تهديد مصالح صانع الأزمة.
⇦
جانب إيجابي، يتمثل في إقناع الطرف الآخر بالقيام
بعمل معين من شأنه تقوية مصالح ومكاسب مفتعل الأزمة.[13]
ومن
هنا، فإن التدبير بالأزمات هو افتعال الأزمات الحادة واستغلالها وليس علاجها.
وتقوم عملية افتعال الأزمة على عدة قواعد أساسية، هي:
خلق علاقة تبعية وانقياد وسيطرة على الكيان المزمع افتعال الأزمة فيه، حتى يمكن
جني المكاسب المستهدفة من وراء صنع الأزمة، وفي الوقت نفسه ضمان عدم اتساع رد
الفعل إلى مدى وأبعاد غير مطلوبة.
زرع مجموعة عناصر موالية تتولى مواقع حساسة في أجهزة الكيان،
يمكنها في الوقت المناسب إعاقة حركة الكيان (السياسي، الاقتصادي، الإداري....)،
وتوجيه قادته، وتقليل منسوب رد الفعل حول افتعال الأزمة.
اختيار التوقيت المناسب الذي يكون افتعال الأزمة مؤثرا فيه،
وقدرة العناصر الموالية على توجيه متخذ القرار وإفقاد التأثير الأزماتي للأزمة
المرتفعة، ومن ثم القدرة على امتصاص التأثير الأزماتي واحتوائه.
إيجاد المسار البديل في شكل مصلحة جانبية يحرص الكيان
(السياسي، الاقتصادي، الإداري...) على الحصول عليها، وفي سبيلها يمكن أن يتغاضى عن
الأزمة التي تم افتعالها، أو يمكن للعناصر الموالية توجيه سلوكه بها[14].
افتعال الأزمة بشكل سريع ومؤثر، وجني مكاسبها وتحقيق الهدف
منها، ثم عقد لقاءات لاستيعاب واحتواء متخذ القرار في الكيان الذي حدثت فيه
الأزمة، وذلك بهدفين، هما:
هدف خفي، وهو التحقق من النتائج التي أفرزتها الأزمة
المفتعلة، ومن استقرار علاقة التبعية مع الكيان وعدم تأثرها بالأزمة.
هدف علني، وهو امتصاص الانفعال، وتجديد الروابط، وتنقية
العلاقات، بهدف فتح صفحة جديدة، ونسيان ما مضى.
وتستخدم في ذلك مجموعة إدعاءات ومبررات، من بينها:
-
الشرعية.
-
الاضطرار.
-
الحتمية.
-
التنبيه للخطر.
-
الحفاظ على الاستقرار.
-
الحفاظ على الأمن.
-
الحفاظ على السلام.
-
حماية النفس والدفاع عنها وعن المصالح.[15]
ومن
الجدير بالذكر أنه على مستوى الوحدات الاقتصادية يستخدم بعض متخذي القرار أساليب التدبير بالأزمات بشكل متعمد، عندما يرغب في تحقيق
أرباح طائلة وغير عادية، فيقوم باستغلال ما تتمتع به الوحدة الاقتصادية من مركز
احتكاري بالسوق، ويقوم بتحجيم وتقليل المعروض من منتجاتها بالسوق، وتخزين جانب
كبير من إنتاجها لتعطيش السوق، وافتعال أزمة لرفع أسعار المنتجات، وخلق طلب مغالي
فيه على السلعة التي تنتجها شركته، تدفعه للتخلص من المخزون الراكد والمعيب لديه.
كما قد يستخدمها متخذ القرار بشكل تلقائي، حيث إنه كثيرا ما يواجه متخذ القرار في
إدارته للشركة التي يعمل بها أزمات مختلفة، ويجد نفسه محاطا بوقائع وأحداث
تبدو له خطيرة ومقلقة، ولا يستطيع تفسيرها ومعرفة عواملها الباعثة لها، وتراكماتها
الذاتية، واتجاهاتها ونتائجها، ومن ثم يزداد أمامه سمك جدار عدم التأكد.
ومن ثم، في غياب منهج علمي ورؤية تحليلية متعمقة، يلجأ متخذ
القرار إلى الارتجال واستخدام سياسة رد الفعل إزاء الحدث، أو الفعل الذي خيل إليه
أنه سبب فيما يواجه الشركة من أزمات، فيؤدي إلى نشوء أزمات جديدة، قد تكون أشد
خطرا وأعمق تأثيرا على الكيان الاقتصادي أو الشركة التي يشرف على إدارتها. بل إن
الأزمات اعتمدت كوسيلة لتغطية بعضها على بعض، الشيء الذي أدى لاعتماد أسلوب
التدبير بالأزمات كأسلوب للإدارة، لتخفي به المؤسسات مشاكلها وعجزها عن تحقيق
أهدافها الموضوعة والمتمثلة في:
-
الربحية.
-
التوسع والنمو.
-
الاستمرار.
ويستخدم رجال الأعمال أسلوب الإدارة بالأزمات لفرض مصالحهم، وإملاء إرادتهم على
الحكومات، وجعلها تستجيب لمطالبهم بطريقة غير مباشرة، ومن أهم الأمثلة على ذلك، أن
أحد رجال الأعمال في الخليج تقدم إلى مركز للبحوث والإدارة بطلب دراسة جدوى لإنشاء
حي سكني متكامل بعيدا عن المدينة، وأشار عليه المركز أن يبدأ بإنشاء الطريق وتوصيل
المياه والكهرباء إلى الموقع، ولكن الرجل بعد أن استمع إلى خلاصات الدراسة رفضها
قائلا: "أنا موافق على كل شيء إلا الطريق والمياه والكهرباء"، مما دفع
الباحثين إلى القول بأن المشروع سيكون غير ممكن، ومضى الرجل في البناء حتى انتهى
منه، ثم مر على جميع الصحف المحلية فصرح شاكيا لها من أنه أقام حياً كاملاً للتغلب
على أزمة الإسكان، ولكن الدولة لا تريد الفراغ من استكمال المرافق العامة، فقامت
الصحف بحملة هجومية على الحكومة جراء هذا التقصير، وامتد الطريق وتم وصل المياه
والكهرباء، دون أن يدفع الرجل شيئا.[16]
ولا
ننسى في هذا الإطار الضغط الكبير الذي مارسته الهيئات الاقتصادية في المغرب على
البرلمان لجعله يقبل بمقتضيات المادة 247 مكرر المدرجة ضمن مشروع قانون المالية
المعدل رقم 35-20، إذ بعد رفض مجلس النواب لهذه المادة في قراءتها الأولى والتي
تخص المبالغ المدفوعة في شكل مساهمات أو تبرعات أو وصايا لصندوق تدبير جائحة كورونا،
إذ تم اعتبارها خصومات ضريبية موزعة على عدة سنوات. لكن بعد أن تم إحالة مشروع
القانون على مجلس المستشارين تم قبول المادة 247 بحجة كونها تندرج ضمن الأحكام
الانتقالية التي تستلزمها المرحلة ويفرضها واقع الاقتصاد المتضرر. فشكلت بذلك هذه
الواقعة تجسيدا واضحا لاستغلال الفاعل الاقتصادي للمعطى الأزماتي ليقوم بالضغط على
ممثلي الأمة ليقبلوا بإضفاء الشرعية على المقتضيات التي كانت إلى حدود الأمس
مرفوضة.
خاتمة:
شكلت فترة انتشار جائحة كورونا اختبارا حقيقيا لعدة مقاربات في التدبير تم اللجوء إليها لإدارة المرحلة الأولية من تفشي وباء كوفيد-19، من قبل عدة دول ومنظمات وغيرها من الكيانات التي كانت واعية بقدر الخطر الذي تشكله هذه الجائحة. فصارت تحاول جاهدة الخروج من الأزمة بأقل الخسائر مستعينة في ذلك بما توفره التخصصات الإدارية من آليات ووسائل لتدبير الأزمات، خاصة أمام تأخر إيجاد لقاح له وصعوبة إنتاجه بالنظر لما يكتنفه الوضع من حشد للموارد المالية الهائلة والكفاءات البشرية عالية المستوى، وأمام استمرار انتشار الفيروس في عدد من المناطق وخاصة التي تشهد تجمعات كبيرة. الأمر الذي يحتم على الجميع التفكير في كيفية تدبير المرحلة اللاحقة على وباء كورونا، إذ صار من المؤكد أنه خلف لدى كافة الكيانات تداعيات وانعكاسات جد خطيرة، من المفترض أنها ستضع هذه الدول وغيرها أمام تحديات صعبة تقتضي إعادة النظر في كل المستويات، من شأنها أن تخلف آثارا قد تعصف بمشروعية هذه الكيانات وتهدد استمرارها. من المؤكد أن مرحلة ما بعد كورونا ستزيد من ضرورة الانفتاح على استراتيجيات تتسم باليقظة العالية والرؤية الإستشرافية والقدرة على تجاوز المخاطر بأقل الأضرار والاستغلال الجيد للفرص التي تتيحها الأزمة، بما يعيد التوازن المفترض واستتباب الأوضاع ثم كسب التأييد والمشروعية والرضا من قبل الجمهور المعني بالأزمة. وهذا ما يمكننا منه أسلوب التدبير بالأزمات باعتباره أسلوبا قادرا على تخطي المشاكل ومعالجة التداعيات مع التقليل من حدتها على المعنيين بها. ذلك أنه أسلوب يقوم على أساس صرف الأنظار عن الأزمة الحقيقية بافتعال أخرى ثانوية مدروسة مراحلها، بدأ من الإعداد لإخراجها، وصولا إلى إنهائها بتهدئة الأوضاع والاستمرار في التحكم فيها. فهو بالتالي نهج عقلاني يفترض عددا من الإجراءات الخاصة والمتميزة التي تندرج ضمن علم تدبير الأزمات وحكامة المخاطر، ويمكننا من كسب تأييد المواطنين وتأطير المخيال الجمعي عبر المؤسسات المتاحة. إن تصاعد حدة هذه المخاطر التي كرستها جائحة كوفيد-19 ينبغي أن تدفع بشكل أكبر إلى تبني ثقافة تدبير الأزمات، ونحو ضخ مزيد من أساليب التفكير الاستراتيجي بما يفرضه من ضرورة التنسيق والتكامل والالتقائية، مع تكثيف الجهود لتعزيز كفاءة العنصر البشري وتكوينه على أساليب إدارة الأزمات، وتطوير المناهج والبنيات الأساسية التي تقوم عليها المنظومات الصحية والاقتصادية والإدارية.
لائحة المراجع:
أحمد فهد، إدارة الأزمات: الأسس، المراحل والآليات. مطبعة أكاديمية نايف للعلوم الأمنية، سنة 1999.
إيثار
عبد الهادي، استراتيجية إدارة الأزمات: تأطير مفاهيمي، مجلة العلوم الاقتصادية
والإدارية، عدد 64، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد، سنة 2011.
شريف
درويش، صناعة الأزمات والتأثير على المجتمع: شبكات التواصل الاجتماعي والشائعات،
المركز العربي للبحوث والدراسات، عدد 35، سنة 2018.
عبد
اللطيف الحرز، أزمة الظاهرة السياسية وتفكيك صناعة الأزمة، دار الفرابي، لبنان،
سنة 2008.
فرانتس
كوهوت، ترجمة سامي أبو يحيى، موسوعة أطلس العلوم السياسية، المكتبة الشرقية،
الطبعة الأولى، بيروت- لبنان، سنة 2012.
محسن
الخضيري، إدارة الأزمات: علم امتلاك القوة في أشد لحظات الضعف، مجموعة النيل
العربية، الطبعة الأولى، القاهرة، سنة 2003.
محسن
الخضيري، إدارة الأزمات: منهج اقتصادي وإداري لحل الأزمات، مكتبة مدبولي، الطبعة
الأولى، القاهرة، سنة 1993.
محمد
سرور الحريري، إدارة الأزمات السياسية واستراتيجيات القضاء على الأزمات السياسية
الدولية، دار حامد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، عمان، سنة 2012.
مدحت
محمود، مفهوم الأزمات: من منظور إداري واجتماعي، المجلة العربية للدراسات الأمنية
والتدريب، المجلد 14، العدد 28، مصر.
معهد
بميك، إدارة الأزمات لما قد لا يحدث، إصدارات بميك، ترجمة علا صلاح، مركز الخبرات
المهنية، سنة 2004.
مكاوي
محمد أمين و شريط عابد، النظام الرأسمالي وصناعة الأزمات المالية والاقتصادية:
الأسباب والتداعيات، مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية، العدد 34/1.
المواقع
الالكترونية:
https://www.goodreads.com/book/show/38090698
[1] - محمد علي العامري،
الإدارة بالأزمة، مقالة منشورة بموقع: https://sst5.com/readArticle.aspx?ArtID=1025&SecID=42 ، بتاريخ: 8/08/2018،
تاريخ الإطلاع: 13/07/2020.
[2] - خالد أحمد الحسني،
نظرية التدخل في الأزمات، رسالة لنيل الماجستير، شعبة علم الاجتماع، كلية الآداب
والعلوم الإنسانية، جامعة الملك عبد العزيز، السنة الجامعية 2014/2015، ص: 7.
[3] - إيثار عبد الهادي،
استراتيجية إدارة الأزمات: تأطير مفاهيمي، مجلة العلوم الاقتصادية والإدارية، عدد
64، كلية الإدارة والاقتصاد، جامعة بغداد، سنة 2011، ص 56.
[4] - المادة الثانية من
مرسوم رقم 2-20-456 صادر في 17 من ذي القعدة 1441
(9 يوليو 2020 ) بتمديد مدة سريان
مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا - كوفيد 19.
[5] - استراتيجية صناعة
وإدارة الأزمات، المعهد التخصصي للدراسات، دراسة منشورة بصيغة الكترونية على موقع
المكتبة الرقمية دار المنظومة http://www.mandumah.com/.
[6] - الأرقام والنسب يتم تجديدها يوميا، وهي واردة
بموقعhttps://news.google.com/covid19/map?hl=fr&gl=MA&ceid=MA:fr
[7] -أحمد محسن الخضيري،
إدارة الأزمات: منهج اقتصادي وإداري لحل الأزمات، مكتبة مدبولي، الطبعة
الأولى،القاهرة، سنة 1993، ص42.
[8]2- عبد اللطيف الحرز، أزمة الظاهرة السياسية
وتفكيك صناعة الأزمة، دار الفرابي، لبنان، سنة 2008، ص 28.
[9]3- محسن الخضيري، إدارة الأزمات: علم امتلاك
القوة في أشد لحظات الضعف، مجموعة النيل العربية، الطبعة الأولى، القاهرة، سنة
2003، ص14.
[10] - مكاوي محمد أمين و
شريط عابد، النظام الرأسمالي وصناعة الأزمات المالية والاقتصادية: الأسباب
والتداعيات، مجلة الحقوق والعلوم الإنسانية، العدد 34/1، ص: 289.
[11] - محمد عبد الله،
الأزمات مفهومها، مراحلها، أسبابها، وآثارها. مركز الإمارات للدراسات والأبحاث،
سنة 2014، منشورة بموقع: https://www.ebsco.com/terms-of-use ، تاريخ الاطلاع:
12/07/2020.
[12] - مدحت محمود، مفهوم الأزمات: من منظور إداري
واجتماعي، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، المجلد 14، العدد 28، ص375.
[13] - أحمد فهد، إدارة الأزمات: الأسس، المراحل
والآليات. مطبعة أكاديمية نايف للعلوم الأمنية، سنة 1999، ص55.
[14] - شريف درويش، صناعة
الأزمات والتأثير على المجتمع: شبكات التواصل الاجتماعي والشائعات، المركز العربي
للبحوث والدراسات، عدد 35، سنة 2018، ص5.
[15] - أحمد فهد، المرجع السابق ، ص 88.
[16] - جمال السيد عبد العال، الأزمات بين الإدارة والصناعة، الجهاز المركزي المصري للتنظيم والإدارة، العدد 136، سنة 2012، ص35، منشورة على الرابط: http://search.mandumah.com/Record/506594 تاريخ الاطلاع: 15/07/2020.
0 التعليقات :
إرسال تعليق