قراءة في رواية تاء الخجل لفضيلة الفاروق
بقلم: أسامة يتوب
اعتمدت
فضيلة الفاروق في عرض القضايا التي تحفل بها روايتها "تاء الخجل" منهجا
استقرائيا من العام إلى الخاص إذ تقدم الأحداث بدء بدار سيدي براهم؛ منزل العائلة
الكبيرة، التي تتشبث بعادات وتقاليد المجتمع الجزائري، وتعيد انتاجها، وسط هذه
العائلة برزت خالدة؛ الأنثى المتمردة، ذلك الفرد النشاز في العائلة، الخارج عن
المألوف، فخالدة ليست كباقي فتيات العائلة، إنها تختلف عنهن في سلوكها، وتعلمها،
وكذلك علاقتها بنصر الدين وحبها له...
رحلت
فضيلة الفاروق ببطلتها من منزل العائلة الكبيرة إلى المدينة التي لجأت إليها هروبا
من خنق العائلة وسلطتها الذكورية، لتجد المدينة هي كذلك لا تختلف عن العقلية التي
تحكم دار سيدي إبراهيم، عقلية ذكورية هي
نفسها التي يسير عليها أهل قسنطينة، هي التي تسير عليها الدولة كذلك، بل والمجتمعات
العربية الإسلامية أيضا، هي التي تبيح الضرب المبرح لزوجة الأخ حد الشلل، تحت
تصفيق القبيلة ومباركتها، فالمرأة كيفما كانت، متزوجة كانت أم أرملة، أم مطلقة،
تلسعها ألسن المجتمع، وتطالها أيدي الأقارب قبل الغرباء، في مجتمع يؤمن بوصاية
الرجل على المرأة، وأن المرأة بدون رجل قيمتها كقيمة الصفر على يسار الرقم .
تمردت
خالدة على هذا الوضع ورفضته بكل إمكاناتها خاصة بالدراسة والتعلم، وهذا ما خول لها
مغادرة بستان الأشواك بعد البكالوريا، هربا من واقع لم ترضاه، هربت وفي قلبها حب
نصرالدين، الذي غادر بدوره القرية في اتجاه المدينة قصد الالتحاق بالجامعة، انبهرا
الوافدان الجديدان بالمدينة نصر الدين بالعاصمة، وخالدة بقسنطينة فعبرا عن ذلك من
خلال كتابتها عن هاتين المدينتين.
عودة
إلى دار سيدي إبراهيم كانت خالدة تعاني من سخط أفراد العائلة عليها إلا أبوها
وأمها، لا لشيء إلا لأنها تختلف عن الأخريات، فالنساء المختلفات في المجتمع
الذكوري يشكلن هواجس للأخرين خاصة من بنات جنسهن، في الحقيقة لم تكن خالدة هي
المختلفة عن بنات العائلة بل أمها وأبوها؛ هما المختلفين في عقلتيهما، فأبوها كان
متمردا، تمرد على عادات وتقاليد مجتمعه بتطليقه لزوجته ابنة عمه، ليتزوج التي أحبها...
أم خالدة التي ستدفع ثمن تمرد زوجها، فنساء العائلة ينتقمن منها بالمكائد والدسائس
والإساءات...
تمر
فضيلة الفاروق لتصف لنا بنية المنزل، بنية الدار التي تكتسي أهمية كبيرة في
ثقافتنا العربية الإسلامية، وكذلك في شمال أفريقيا، هندسة تؤثر في حياة الإنسان
الشرقي وتشكل عقلية وأفكاره وشخصيته، وتقول فضيلة الفاروق على لسان خالدة: "لن
تفهم هذه الأشياء إذا لم أصف لك سنين طفولتي وكيف كنا نعيش فيه، فهندسته ونظام
الحياة فيه سر من أسرار تركيبتي وتمردي"[1] .
من
هندسة الدار تنتقل بنا الكاتبة إلى موضوع في غاية الأهمية، وهو السلطة في الدار، أو
من يمتلك السلطة في العائلة؟ وكغيرها من العائلات العربية الشرقية يعتلي سيدي
إبراهيم هرم سلطة العائلة، سلطة خولتها له رمزيته الدينية فهو إمام مسجد، إضافة
إلى السلطة المخولة له من قوانين النظام الأبوي، فإلى جانب سلطة الذكر المعترف بها
والمصرح بها، هناك سلطة أخرى غير معترف بها، سلطة خفية، هي سلطة المرأة، سلطة
تستمدها من رأسمالها المادي فتخول لها المشاركة في صناعة القرار، ومجالسة الرجال
ومشاركتهم أحاديثهم السياسية، فكانت لالة عيشة أول امرأة انخرطت في الحزب أيام
الثورة، تقول فضيلة الفاروق في حديثها عن سلطة لالة عيشة:
"كانت
قد ورثت عن زوجها نخيلا في مسونش" وأراضي ضواحي "آريس" تدر عليها
كل سنة مبالغ محترمة من المال، هذا ما جعل عائلة بني مقران كلها تحترمها وتأخد
رأيها في كثير من الأمور" [2]
إن
رأس مالها المادي خول لها مراكمة رأسمالا اجتماعيا حتم على الأخرين احترامها
وتقديرها. نعود مجددا إلى التنظيم
في العائلة العربية الاسلامية، فكما سبق وأشرنا نجد الذكر في أعلى هرم السلطة، رجل
العائلة الذي يحظى برمزية دينية مرفقة بسلطة المال، هاتين الميزتين تخول له سلطة
اتخاذ القرار وإصداره. ولتكريس هذه السلطة يستغل كبير العائلة يوم الجمعة باعتبارها
ذات رمزية دينية، ليتجدد ولاء أفراد عائلته له، من خلال بروتكول يذكر به بمكانته
في العائلة. فبعد صلاة الجمعة والعودة من المسجد ينتصب سدي براهيم في موقع السلطة
متخذا من إخوانه وأبنائهم حاشيته المفضلة، يجلسون في قاعة الضيوف، حول المائدة
الكبيرة، ينتظرون خدمة النساء لهم، ترسيخا لثقافة ذكورية متجذرة في المجتمع
الجزائري وكذلك بقية المجتمعات الشرقية. فالنساء دورهن أعداد الطعام وانتظار
الرجال إلى حين عودتهم من المسجد، لتناول الغداء قبل النساء، هذا الوضع ترفضه
خالدة وتتمرد عليه ولو بشكل غير مصرح به، فتختار الانزواء في البستان أو على الدرج.
تنتقل
بنا المؤلفة إلى انتقاد العرس الجزائري الذي لا يختلف عن باقي الأعراس في مجتمعنا
العربي، عرس شرقي ينتهك حرمة العروس، ويختزلها في بضع قطرات دم تسيل بين فخضيها.
وضع يتواطأ معه الكل، حتى العروس نفسها متواطئة.
فتقول المؤلفة:
" والنساء يزغردن،
والعروس تمثل البراءة...
ما أبشع ان تكون
الواحدة منا عروسا [3] "
على لسان خالدة تسرد
لنا فضيلة الفاروق معاناة الإناث مع ذكور العائلة، فحب نصر الدين جعلها تراقب
غرفته ليلا، ليباغتها ابن عمها محاولا ابتزازها واخضاعها له، هذا الأسلوب يسلكه الأقارب
مع قريباتهم من أجل إجبارهن على الانصياع لهم وإشباع رغباتهم... المعاناة لا تتوقف
هنا بل شن العم بوبكر هجوما عليها وحرض الأب عليها بمبرر أن بنات الجامعة يعدن
حبالى، وطرح عليه سؤالا مستفزا، هل ستنتظر حتى تأتيك بالعار؟![4].
لم يستسلم العم بوبكر حتى قرر كبير العائلة سدي براهيم تزويج خالدة لأحد أبناء
عمومتها محمود أو أحمد، هذا الحل تلجأ إليه العائلات الشرقية لدرء الفضيحة أو
نفيها. تمردا على هذا
القرار لجأت خالدة الى قسنطينة، وبعد ذلك جاءها خبر اعتقال محمود لانتمائه لجماعة إسلامية
متطرفة... أما أحمد فيرفض هذا الزواج، ويرفض أن يقرر مصيره من طرف الأخرين، وكذلك
وفاء لصديقة نصر الدين.
انتقلت
خالدة إلى الحياة المهنية وانشغلت بالعمل الإعلامي مع جريدة "الرأي
الآخر" من خلال هذه الأحداث تطلعنا فضيلة الفاروق على واقع الصحافة آنذاك
حين بلغت موجة اغتيال الصحافيين دروتها. وأدرك أهل الصحافة لأنه لا مفر من الوحدة
لتحصين الذات.
سنة
العار.. هي السنة التي عرفت فيها خالدة هزة في دواخلها وغيرت خارطة مشاعرها، هي
السنة التي شهدت اغتيال 151 امرأة واختطاف 12 امرأة من الوسط الريفي المعدم. هنا
استحضرت فضيلة الفاروق جزء من تاريخ المجتمع الجزائري، ما يعرف بالعشرية السوداء،
والتي عانى فيها المجتمع الجزائري مع الحركات الإسلامية المسلحة. خاصة سنة 1995
حين أعلنت هذه الجماعات في بيانها رقم 28 الصادر في 20 نيسان، أنها وسعت دائرة
معركتها.
"سنوسع
أيضا دائرة انتصاراتنا بقتل أمهات وأخوات وبنات الزنادقة اللواتي تقطن تحت سقف
بيوتهن واللواتي يمنحن المأوى لهؤلا...[5]
في
ظل هذا الوضع لم تعد الهجرة حلا، هربا من العائلة، ومن القرية إلى المدينة، ومن
مدينة إلى مدينة.. بل صار الوطن كله مثيرا للرغبة في الهجرة.
تطرقت
فضيلة الفارق لسكيزوفرينية الإنسان العربي الذي يسفق للفنانة ليلا بعد العرض، وفي
الصباح يصفها بالعاهرة، كان هذا حال كنزة التي أحبت المسرح وأبدعت فيه، فبعد خمس
سنوات من العطاء والتضحية قررت ترك المسرح، لتتزوج وتعود إلى مدينة سكيكدة.
بعد حكاية كنزة تأتي حكاية ريمة النجار طفلة
اغتصبها الأربعيني صاحب البسكويت، ليلجأ والدها الى تخليصها من العار برميها من
جسر سدي مسيد... إن إنساننا العربي، وخاصة الطبقات الفقيرة ملاذها الوحيد والأوحد
للخلاص هو الموت، إنها تنتظر الموت، بل تصنعه لتتخلص من عقدة العار، عقدة المدنس،
عقدة الاغتصاب، إنهم ينتصرون لمغتصبيهم، ويرزحون تحت أقدامهم، بجلدهم لذواتهم،
وارتكاب جريمة ثانية في حق الضحية.
"يمينة"
تلك حكاية أخرى تحمل بين طياتها جروحا غائرة لم ولن تندمل، هذه الفتاة هي واحدة من
المجموعة التي حررها الجيش الوطني من قبضة الجماعة الاسلامية، "يمينة"
واحدة من المحتجزات اللواتي تعرضن للاغتصاب والاستغلال والعنف... من طرف أعضاء تلك
الجماعة، فأنجبت طفلا فقتلوه أمامها. تقول فضيلة الفاروق على لسان
"يمينة":
"إنهم
يأتون كل مساء ويرغموننا على ممارسة «العيب» وحين نلد يقتلون المواليد، نحن نصرخ
ونبكي ونتألم وهم يمارسون معنا العيب نستنجد ونتوسلهم، نقبل أرجلهم ألا يفعلوا ذلك
ولكنهم لا يبالون" [6]
هذا
الوضع الذي تعانيه يمينة كانت في حاجة إلى مساندة أهلها وذويها؛ فالإنسان في حالة
الأزمة يميل إلى الاستناد إلى أهله إلى من يلتمس فيهم قرابته ودمه، فيرتاح إلى
مساندتهم، هكذا هي الشخصية الشرقية وخاصة في شمال إفريقية ننحاز إلى أبناء عمومتنا
ولأبناء بلدتنا ولأبناء قبيلتنا... فعندما صرحت خالدة ليمنة أنها من نفس بلدتها
"تابندوت" فرحت لذلك واعتبرتها أهلها. فتقول فضيلة الفاروق على لسان
يمينة:
" تمنيت أن أرى أحدا من أهلي قبل أن
أموت، فإذا بالله يستجيب لي، جئت أنت.."[7]
فبعد اطمأنت يمينة لخالدة أخذت المبادرة لتحكي
بلسانها معاناتها ومعاناة زميلاتها في محنة الاختطاف.
وفي
الفصل المعنون بدعاء الكارثة تحاول فضيلة الفاروق أن تنقل للقارئ مدى تأثير جبهة
الإنقاذ في المجتمع الجزائري، وقدرتها الرهيبة على تغييب عقول الناس واستلابهم،
وجعلت منهم ببغاوات يرددون خطابات جبهة الإنقاذ، حتى دعاء الكارثة يرددونه دون أدنى
تفكير أو نقد...
استعملت
المؤلفة كلمة "المآذن" لا للتعبير فقط عن البناية العالية من المسجد
التي ينبعث منها الآدان، بل تعبيرا عن الخطاب الإيديولوجي الذي تروج له الحركات الإسلامية،
ومدى تأثيره على الآخرين، فمعلوم أن مجتمعاتنا العربية يستهويها العزف على الوتر
الديني، وكيف يؤدي هذا العزف إلى تغيب عقولهم وحسهم النقدي إن وجد.
وفي
نقاشها مع مدير الجريدة خلصت خالدة إلى أن مشكلة الاغتصاب والاعتداء على النساء لن
تحلها القوانين ولا مقالات الصحافة، في غياب إرادة تغير حقيقية، إن المسألة مسألة
عقليات وضمائر.
عرجت
المؤلفة على موضوع آخر لا يقل أهمية عن سابقه. الطفولة في قسنطينة، طفولة تحمل
بؤسا وحرمانا، جعلوا من الحديقة الصغيرة مأوى لهم، طفولة تمتهن بيع السجائر
والمخدرات وأكيد الإدمان عليها، حديقة تعج بالشواذ والسكارى...مما يجعلها بيئة
مناسبة لانتشار مظاهر سلبية تؤثر بشكل سلبي على المجتمع. تقول المؤلفة:
" على بعد مئة متر
يتجاور الطهر والنجاسة.
"يتكاثر المرض
فالحدائق... لمحت رجلا يستمني واقفا...مال عاشق وسخ على حبيبته وقال لها: فكي
الخمار...[8]
أما
قضية الإجهاض فقد جعلت لها فضيلة مكانة خاصة في روايتها هذه، فإحدى ضحايا الاختطاف
والاغتصاب كانت ترغب في الاجهاض، وطلبت ذلك من الطبيب الذي رفض القيام بهذه
العملية بحكم أن القانون لا يخول له الصلاحية، إذ يلزمه محضر الشرطة الذي يثبت أن
هذه السيدة كانت ضحية الاغتصاب. تقول الكاتبة : "أي قانون هذا الذي يجبر المرأة
على قبول ثمرة اغتصاب كرامتها وإنسانيتها في أحشائها؟"[9]
إن
ضحية الاغتصاب في وطننا العربي مضطرة لمواجه مصيرها لوحدها، تتعرض للنبذ والوصم،
أسرتها تتنكر لها والمجتمع كذلك يمارس عليه عنفا رمزيا، في رواية "تاء
الخجل" تابعنا كيف رفضت أسرة يمينة استقبالها، بل وأنكرت أن لهم بنتا تدعى
"يمينة". وأبعد من ذلك تناولت يمينة الاعتداء على الحرمات كآلية
للانتقام، فاختطاف النساء جاء انتقاما من الأسر التي انظم أفرادها إلى الجيش
الجزائري.
"إن ابنك التحق بالطاغوت وهذا جزاءك لأنك
تركته...
"
[10]
يتشكل
أعضاء هذه الجماعات من كل طبقات الشعب، منهم الفقير والغني، المتعلم وغير
المتعلم... كما تحكي "يمينة" عن قصة رزيقة فتقول:
" بعضهم قارين، هي
نفسها (رزيقة) تعرفت من بين الإرهابين على زميل لها كان معها في الجامعة"[11]
أنهت فضيلة الفاروق روايتها هذه بموت "يمينة" موت لم تمت معه معاناة نساء الجزائر، وكذلك الأمر بالنسبة لنساء المجتمعات الشرقية، مجتمعات الحياة فيها معادلة للموت. لهذا استأنفت خالدة هجرتها التي بدأتها من منزل العائلة في القرية في اتجاه المدينة، هجرة لم تغير الواقع ففضلت أن تهاجر خارج الوطن، وأن تراقبه من بعيد.
تحليل ممتاز👏👏
ردحذفاحسمت ايها الرفيق
ردحذف