بيان جسور القراءة بخصوص اليوم الوطني للقراءة 2022
لا شك فى أن للقراءة
أهمية كبرى لا يُمكن تجاوزها، فهي غذاء وعلاج فى آن واحد، كما عبر عن ذلك الفراعنة
بكتابة عبارة على جدار أول مكتبة أنشأوها "غذاء النفوس وطِبُ العقول"، بل
هى أساس الحرية الفكرية والسياسية والثقافية، لأنه يستحيل بناء مُواطِن حر من دون
تمكينه من القراءة وسُبل الوصول إلى المَعرفة والعِلم، كما يتعذَر بغيرها صناعة
حاضر المجتمع ومستقبله؛ فهى الذاكرة الحضارية ضد النسيان، والسد المنيع ضد أشكال
التبعية والاستلاب، ورافِعة التنمية الحقيقية، والرهان الناجح لاحتلال مَوقِعٍ مشرِف
بين الأُمم.
ونحن نحيي مناسبة اليوم
الوطني للقراءة ببلدنا الحبيب، نستحضر قول عباس محمود العقاد "أن القراءة لم تزل عندنا سخرة
يساق إليها الأكثرون طلباً لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة الحاضرة حركة
نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود"، وهو الأمر الذي لا يرتقي بنا
كمجتمع إلى مصاف مجتمع المعرفة، بالرغم مما راكمته بلادنا من تطورات في مختلف
الميادين.
بالتأمل فى واقع مجتمعنا،
نجد هَيمنة ثقافة الأُذن والمُشافَهة على ثقافة القراءة والكِتابة، من حيث هى
ثقافة العَين والنقد. فطوال عقود عجز مُجتمعنا عن توطين ثقافة القراءة وترْجمتها
سلوكيا فى المجتمع. رغم توفرنا على يوم وطني يحيي ويحتفي بالقراءة والكتب والكاتب
على حد سواء، إلا أن الاحتفال بهذا اليوم يظل هامشيا ولا يرقى إلى المستوى
المطلوب، إن لم نقل أنه يوم عابر لا يكاد يرى، ويقتصر إحياءه على بعض هيئات المجتمع
المدني.
فى الواقع نحن أمام
قضية مُركَبة لا تهم الجانب الثقافي والتوعوي لوحده، بل تتعداها لما هو سياسي
واقتصادي واجتماعي؛ كما أنها مشكلة المجتمع برمته، إذ تُسائل ثقافته ومؤسساته
ومُختلف الفاعلين فيه. فهى ليست مشكلة الجامعة ولا المؤسسة التعليمية وحدها، لأن
المطلوب أن يقرأ الجميع. يتصل الأمر بذهنية تأسست عبر الأزمان وهَيمَنة تصور خاص
للمعرفة والفكر. وفى مستوى آخر، مسألة إرادة سياسية، لأن الدولة مسؤولة عن توفير
الماء والكهرباء والصحة عبر قطاعات محدَدة، كما هى مسؤولة عن التغذية الفكرية،
لأننا نعد الكِتاب خبز الثقافة؛ ومثلما نتحدَث عن أمنٍ غذائى، نتحدث عن أمنٍ ثقافى
وفكرى.
مؤسسة الأسرة أيضا، لم
تُبلوِر عاداتٍ للقراءة؛ فمنازلُنا تكاد تخلو من مَكتباتٍ ومساحاتٍ مفردة للكُتب،
باستثناء ما هو موجَه منها للديكور. هكذا تغيب عادة القراءة فى البيت قبل الوصول
إلى المدرسة، لينتهى فعل القراءة بانتهاء مرحلة التمدرس، ما يُسائل دَور المدرسة
والسياسة التعليمية على نحوٍ خاص. فالواضح أننا لا نعطى قيمة للكِتاب وما يحمله من
أفكارٍ ومَعارِف، بدليل أننا نادِرا ما نتبادل إهداء الكُتب، بل قلما نجد أفرادا
يقرأون فى الساحات والحدائق العمومية أو على الشواطئ أو فى وسائل النقل. ربما
لأننا لا نُعلِم أبناءنا حب القراءة، وهى المهمة التى أَخفقت فيها المدرسة نفسها،
لتُختزَل فى أحسن الأحوال إلى أنشطة موجَهة بحافز الحصول على علامات مدرسية أو
الإعداد لمُباراة وظيفية. فالبَرامج المدرسية لا تُشجِع على تنمية القراءة كفعل
واع وذاتى ونقدى، تعلمى وتثقيفى.
ها هنا نجد وسائل
الإعلام مقصِرة فى ترسيخ ثقافة القراءة، وهى التى تتحمَل المسئولية كاملة فى ما
تنشره فى صفوف الناشئة، يشهد على ذلك حَجم البَرامج التوعوية والتثقيفية الهزيل
مُقارَنة ببرامِج التسلية والفكاهة. كما أن النماذج المروَج لها، لا تمت بصلة إلى
عالَم المَعرفة والفكر، والأسوأ من ذلك كله، اختزال الثقافة برمتها فى أعمال
التسلية الشعبوية.
فالدولة مسؤولة عبر
سياستها الثقافية والفكرية والإعلامية، ومُطالَبة ببلْورة سياسة واضحة، تعطى أهمية
للكِتاب وللمَكتبة وللمؤلف، وتيسِر وصول المُواطن إليها، من باب الحق فى المعلومة
والخبر والمَعرفة. كما أن الأحزاب بدَورها معنيَة، لأنها لا تشتغل إلا بشكلٍ موسمى
انتخابوى، ولا تضع بلورة سلوك القراءة ضمن أهدافها المباشرة وبرامجها السياسية. ناهيك
عن دور المجتمع المدنى، لأنه لا تنمية من دون قراءة؛ ثم إن التنمية العميقة تتجاوز
التوجهات والمُقاربات الاقتصادية إلى أخرى فكرية وثقافية، تمثِل الكِتابة والقراءة
أولى الخطوات لتأسيسها ودعْمها على نحوٍ أوثق؛ فالتنمية الثقافية يقينا، أسبق من
التنمية الاقتصادية أو المادية.
ولئن رأى البعض أن زمن
القراءة تقلَص لمصلحة الوسائط الاجتماعية، فلا ينبغى أن ينسينا ذلك ما توفره هذه
التقنيات من مجالٍ واسع للقراءة يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية والإيديولوجية
والثقافية. المشكلة إذن ليست فى الإنترنت، بل فى سوء استعماله وتوظيفه، ما دام
واضحا أن الهجرة الرقمية قوية إلى المواقع الإباحية، بينما بالإمكان صرف كل هذا
الجُهد فى الكُتب الرقمية والمجلات الإلكترونية المُختصَة...إلخ.
المطلوب إذن، بناء
مجتمع القراءة والمَعرفة، لأنه رهان اليوم والغد، فنحن بحاجة إلى استنبات ثقافةٍ
جديدة عبر مَداخل التنشئة الاجتماعية، بالتشجيع على القراءة والكِتابة وقيَم
احترامهما معا، مثلما نحن بحاجة أيضا إلى تعزيز مَكانة ثقافة العَين مقارنة بثقافة
الأذن والمُشافَهة. بكلمة واحدة، نريد مجتمعا يقرأ فيه الجميع، وليس التلميذ
والطالِب والمدرِس فقط؛ فليست القراءة مجرد تَرف، بل حاجة أساسية وضرورة ثقافية
ووجودية يومية ملحة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق